1- مولد بولس ونشأته.
هو من طرسوس واسمه شاول.
ليس ما يدل بدقة على تاريخ مولده، ولكن المرجّح أنه ولد في نحو السنة السادسة بعد الميلاد، وكان يصغر يسوع بنحو سبع سنوات، أو أكثر قليلاً، ولكنه على نقيض يسوع، ولد في أحضان أسرة ميسورة، وفي مدينة كبيرة، وتوفّرت له أسباب العيش الرغيد، والعلم والثقافة.
في سياق تعريفه بهويته، يقول بولس أنه عبراني إبن عبراني، من سبط بنيامين، وفرّيسي إبن فرّيسي، وأنّه ختن في اليوم الثامن وفقاً للشريعة.
كان والدا شاول قد رزقا ابنة، ثم رزقا صبي، بعد طول انتظار ودعاء وتوسل، وأطلقا عليه اسم "شاول" العبري، وهو يعني "منّة الله استجابة لتوسّل" وهو ايضاً اسم الملك الأوّل من سبط بنيامين الذي كان والد شاول يعتز بالإنتماء اليه. وأعطي الصبي، أيضاً، اسماً آخر رومانياً يونانياً، تكيفاً مع مقتضيات المحيط، وهو بولس، ويعني الصغير الضئيل الحجم، فكان يدعى شاول في البيت وفي حلقة المعارف، ويسمّيه الغرباء "بولس".
كان والده ينعم بالرخاء ويعمل في حياكة الأقمشة وكان فرّيسياً شديد الصرامة في الإتجاهات الدينية والوطنية. أدخله والده الى أسرار الكتاب الأصلية المقدّسة التي تعلّمها من المدرسة ومن الترجمة السبعينية.
في المساء كان الصبي يجلس على الأرض، عند قدمي والده الذي يروي له قصصاً مثيرة عن الشعب اليهودي، متحدثاً تارة بالآرامية، وتارة أخرى باليونانية، لكي يجعله يألف اللغتين معاً، وكان يتلو على مسامعه مقاطع من الكتاب المقدّس.
كان لليهود طريقة خاصّة في الثقافة. يبتدىء الولد عندما يبلغ السن الخامسة الأمور الهامة التي تتضمّنها الشريعة في الفصل الخامس والسادس من تثنية الإشتراع والمزامير ( 113-118) التي كانوا يرتلونها في الأعياد الكبرى.
لمّا بلغ شاول الخامسة، باتت تربية أبيه أكثر جدّية، فالدروس أشدّ دقّة ووضوحاً، والعصا أثقل وطأة: فالتقاليد الفريسية كانت توصي بالشروع، منذ تلك السن المبكرة، بتلقين الصبي التوراة، ومبادىء الشريعة، ومعاني الأعياد الكبرى، والمناسبات الدينية. وهكذا طيلة سنة، فرض على شاول قضاء ساعتين، كل يوم، يتهجأ الأحرف العبرية والآرامية، ويستظهر الوصايا، والصلوات اليومية، زمبادىء اللغة اليونانية.
في السادسة من عمره ذهب شاول الى "الأمبلو او الكرمة" أي مدرسة المجمع القائمة مقابله. وكان عبد يحمل كيس الصبي ويذهب به وسط الطرقات وبولس يتبعه. كان يجلس على الأرض ويضع اللوح الحجري فوق ركبتيه والقلم بيده. أربع مرّات، كل يوم، كان يجتاز الطريق من المنزل الى المدرسة ومن المدرسة الى المنزل. كان يتعلّم تاريخ شعبه، وإلى جانب التعاليم الدينية باللغتين الآرامية واليونانية، تعلّم الجغرافيا والحساب، وتدرّب ايضاً على مهنتي الحياكة وصنع الخيام.
في الثامنة من عمره، كان شاول يتلو المزامير بمفرده، ويلمّ بالكثير من تعاليم دينه.
عندما بلغ العاشرة من العمر بدأت المرحلة الثانية من ثقافة بولس التي لم تكن مريحة كالأولى. شرع معلّموه يلقنونه "الميشنا" أي طريقة الأقدمين، وشرائع شعبه الشفوية التي تتناقلها الأجيال، والتي ترمي الى وقاية نفسه بما يشبه سوراً من الوصايا والمحظورات.
في الثالثة عشر، أصبح على غرار اليهود الأتقياء، "إبن الشريعة"، وغدا يمارس، بدقّة، جميع الطقوس.
2- ابن طرسوس.
في سياق تعريفه بهويته، يقول بولس، ايضاً باعتزاز: "أنا طرسوسي" .
في العام 64 قبل لميلاد، كان طرسوس قد أصبحت عاصمة ولاية كيايكية التي ضمّت، في في عهد أغوسطس، الى اقليم سورية، وأطلق عليها القائد اليوناني كسينوفون اسم "المدينة الكبيرة السعيدة".
اشتهرت طرسوس بتجارة العطور والنبيذ، وبرع مهنيّوها في صناعة أقمشة الصوف والكتان وشعر الماعز.
ولم تكن طرسوس مركز تجاري نشيط فحسب، بل كانت مركز تبادل حضاري عريق، وملتقى حضارتين آنذاك: الإغريقية الرومانية الغربية، والسامية الشرقية. كانت طرسوس تحتضن جامعة تضاهي جامعتي أثينا والإسكندرية، ويتولى التدريس فيها معلّمون ذائعو الصيت. وكانت مع الإسكندرية وأثينا مثلّث الحضارت القديم.
في تلك الأيام كان عدد سكّان طرسوس يناهز ثلاث مئة الف نسمة من مختلف الشعوب. وتميّزت الجالية اليهودية، في طرسوس، بتماسكها وتحفّظها والتفافها حول زعمائها زتشبثها بتقاليدها الخاصة، ومحاكمها، ومدارسها ومجامعها، ونشاطها في محيطها. في اطار هذه الجماعة، ولد شاول وترعرع، وتلقى ثقافته الأساسية.
صحيح أن تأثير تربية شاول اليهودية كان هو الأقوى، ومع ذلك تأثر، في أعماقه، بالنزعتين اللتين كانتا تتنازعان أذهان الطرسوسيين: نزعة شرقية سامية آسيوية، وأخرى هلّينية. وبالإجمال استمد شاول من طرسوس ثقافة منفتحة على مختلف شعوب الأرض. ثمّ جاء تأثير أورشليم لكي يغني ما خلّفته طرسوس من تأثير أغنى عبقريته.
3- "تحت أقدام غملائيل" في أورشليم
على العبراني، وفقاً لتقليد كهنوتي يهودي قديم، أن يبدأ بقراءة التوراة في الخامسة من عمره. والميشنا "التقليد اللفظي" في العاشرة، والتلمود "التعليم" في الخامسة عشر. وفي الثامنة عشر يجب أن يقاد الى المخدع العرسي.
من الجائز أن يكون والد شاول، كفرّيسي أصيل، قد حمل ابنه، في الخامسة عشر من عمره، الى أورشليم في عيد الفصح، ليسجّل في مدرسة الهيكل الشهيرة.
سكن شاول في بيت صديق لوالده، هو أيضاً كان فرّيسياً من قبيلة بنيامين يعمل حائكاً، وله ولدان باتا رفيقي شاول في البيت وفي المدرسة. أما المدرسة فكانت هي المثلى لفرّيسي يبغي التوغل في معرفة الشريعة، هي مدرسة الرابّي غمالئيل. وغمالئيل هذا "من معلّمي الشريعة، يحترمه الشعب كلّه" (رسل،5/34) وعضو في المجمع، ورجل بارز بسبب أفكاره الغزيرة الواسعة، وقائد روحي تجرّأ وأخذ الرسل تحت جمايته. عدد تلاميذه كان يناهز الخمس مئة، ولكنه لم يحتفظ، الى جانبه، إلاّ ببعض الأتباع، الذين يجلّونه كأب ويدعونه "أبّا"، ويتقاسمونه العيش والطعام والصلاة، وكان شاول أحدهم.
في مدرسة غمالئيل تمرّس شاول في الفقه التوراتي، وتلك الدراسة كانت تتطلّب جهداً فائقاً، إذ كان يتعيّن على الطالب أن يحفظ عن ظهر قلب، لا النصوص المقدّسة فحسب، بل أيضاُ، تأويلات كبار الرّابين.
أمضى شاول سنوات عديدة عند قدمي معلّمه، ومن حسن طالعه أن معلّمه كان من أكثر علماء الشريعة انفتاحاً وطيبة وتسامحاً. ومن مواقفه المشهودة أنّه، عندما أمعن اليهود في اضطهاد تلاميذ يسوع، وقف وحده موقف الحكمة والإعتدال، فخاطب أعضاء السنهدرين قائلاً: "احذروا ممّا تنوون فعله بهؤلاء الرجال. فأقترح عليكم الآن أن تعدلوا عنهم، وتدعوهم وشأنهم، لأنه ان كان قصدهم أو عملهم من عند الناس، فإنه سيضمحلّ من نفسه، وأمّا إذا كان من عند الله، فلن تستطيعوا نقضه، وتتعرّضون لأن تكونوا في حرباً على الله"
ومن المحقّق أن شاول، بفضل تربيته الهلّينية، قد استظهر التوراة، بترجمتها اليونانية، المعروفة بالسبعينيّة. ولكنّه عندما أمسى يقرأ التوراة على ضوء أنوار دمشق، والهام الروح القدس، بات يجهد في استنباط مكنوناتها، واستخلاص تأويلاتها التي تشير الى تعالي يسوع ورسالته الخلاصية.
والى جانب علم التوراة، تلقّى شاول، عملاً بالتقليد الفرّيسي، تعليماً موسوعياً، فأتقن لغّات عديدة منها العبرية لغة الأجداد، واليونانية لغّة الثقافة، واللاتينية لغّة الحكّام، والآرامية التي كانت رائجة في فلسطين وسورية. وتلقى دروساً عملية في الزراعة وعلم الحيوان والنبات، والتشريح، والمّ بمبادىء الطب الأساسية، ومبادىء الحقوق اليهودية والرومانية، وبأصول المحاكمات.
وأكثر ما اهتمّ به غمالئيل هو إعداد طلاّبه ليكونوا خطباء وواعظين. وقد أتقن شاول فنّ النقاش والمناظرة والمرافعة.
في العشرين م عمره، كان شاول قد أنهى تعليمه الأساسي، وأمسى عالماً في التوراة والشريعة، وفي أورشليم ابتدأ جهاده. هبط أورشليم يهودياً، وعاد منها متعصّباً، مغالياً في يهوديته.
في العشرين م عمره ، كان شاول قد أنهى تعليمه الأساسي، وأمسى عالماً في التوراة والشريعة، وفي أورشليم ابتدأ جهاده . هبط أورشليم يهودياً، وعاد منها متعصّباً ، مغالياً في يهوديته.
4- فترة تدريب ونضوج في طرسوس :83: :83: